عَلَى مِثْلِهَا تَبْكِي السَّمَـاءُ وَتَجْـزَعُ
وَتَبْكِي عَلَيْهَا الأَرْضُ حُزْنًا وتُفْجَـعُ
وَتَرْنُو وَرَاءَ النَّعْشِ ثَكْلَـى شَـوَارِعٌ
تَئِنُّ عَلَى الصَّفَّيْـنِ وَجْـدًا وَتَدْمَـعُ
وَيَبْكِي جِـدَارٌ مِـنْ وَرَاءِ جِدَارِهَـا
وَيَهْذِي رَصِيفٌ فِي الطَّرِيقِ وَيَهْـرَعُ
وَيَغْفُو عَلَى الأَحْزَانِ خَلْفَكِ مَسْجِـدٌ
يَظَلُّ وَيُمْسِي فِي الضَّرَاعَـةِ يَشْفَـعُ
يُحَلِّـقُ عُصْفُـورٌ أَمَـامَ حَمَـامَـةٍ
وَخَلْفَهُمَـا سِـرْبٌ يَحُـطُّ وَيُقْـلِـعُ
يَرُوحُ وَيَغْدُو جَانِحًـا فَـوْقَ قَبْرِهَـا
وَللهِ سِرْبٌ فِـي السَّحَابَـةِ مُسْـرِعُ
يَطِيـرُ بَعِيـدًا ثُـمَّ يَهْبِـطُ قُـرْبَـهُ
عَلَى دَوْحَةِ الأَشْوَاقِ يَدْعُو وَيَهْجَـعُ
يَحِنُّ إِلَيْهَـا الـدَّوْحُ وَهْـيَ بَعِيـدَةٌ
وَتَهْلَـكُ أَرْوَاحٌ عَلَيْهَـا وَتَـصْـدَعُ
فَلا الصَّبْرُ يُخْفِي مِنْ عَذَابَاتِ أَهْلِهَـا
وَلا هُوَ يُبْدِي سُلْـوَةً حِيـنَ تَفْـزَعُ
وَلِلصَّبْرِ غَايَـاتٌ وَلِلْمَـوْتِ رَاحَـةٌ
وَلَيْسَ إِلَى الْغَايَـاتِ بَعْـدَكِ مَطْمَـعُ
فَنِعْـمَ مَمَـاتٌ بَعْـدَ طُـولِ مَشَقَّـةٍ
وَبِئْـسَ حَيَـاةٌ بَعْـدَ مَوْتِـكِ تُمْتِـعُ
وَهَيْهَاتَ أَنْ نَحْيَا وَوَجْهُـكِ غَائِـبٌ
وَنُورُكِ لا يَمْحُـو الظَّـلامَ وَيَقْشَـعُ
فَلا طَابَـتِ الدُّنْيَـا وَحُلْـوُ مَذَاقِهَـا
وَعُـودِيَ صَبَّـارٌ وَكَأْسِـيَ مُتْـرَعُ
تَسَاقَـطُ مِنَّـا أَنْفُـسٌ فَـوْقَ أَنْفُـسٍ
وَتَهْوِي رُؤُوسٌ تَحْتَهَا وَهْيَ تَخْضَـعُ
فَكَمْ مِنْ صَغِيرٍ بَاتَ فِي اللَّيْلِ صَارِخًا
وَكَمْ مِـنْ كَبِيـرٍ يَسْتَعِيـذُ وَيَرْكَـعُ
فَلِلَّـهِ هَـذَا الْمَـوْتُ لَيْـسَ بِرَاحِـمٍ
أَبًـا بَاكِيًـا ضَعْفًـا وَأُمًّـا تُرَجِّـعُ
إِذَا كَانَ مَوْتُ الشَّيْخِ قَدْ يُوجِعُ الْفَتَـى
فَمَوْتُ حَبِيبٍ فِـي الثَّلاثِيـنَ أَوْجَـعُ
أَتَغْرُبُ شَمْسٌ مِنْ ضُلُوعِي عَزِيـزَةٌ
وَيُشْرِقُ نُورٌ فِي الْقُبُـورِ وَيَطْلُـعُ ؟
ثَقِيلٌ عَلَيْنَـا الْمَـوْتُ حِيـنَ يَجِيئُنَـا
وِلِلْمَـوْتِ أَنْيَـابٌ تَـعَـضُّ وَأَذْرُعُ
يَمُـرُّ عَلَيْنَـا الْيَـوْمُ لَسْنَـا نُعِـيـدُهُ
وَإِنَّا ـوَإِنْ شِئْنَا الْخُلُـودَ ـلَنُصْـرَعُ
يُطَـافُ عَلَيْنَـا بِالْكُـؤُوسِ مَلِيـئَـةً
فَتَشْرَبُ إِنْ شِئْتَ وَإِنْ شِئْـتَ تَمْنَـعُ
وَيَأْتِي الـرَّدَى مُـرَّ الْمَذَاقَـةِ بَغْتَـةً
فَنَشْرَبُ كَأْسَ الْمَوْتِ حَتْمًا وَنَجْـرَعُ
فَقَـدْ كَانَـتِ الدُّنْيَـا تُحِيـطُ بِبَهْجَـةٍ
فَتَضْحَـكُ أَرْوَاحٌ وَيَسْعَـدُ مَـرْبَـعُ
وَيَبْسُمُ وَرْدُ الـرَّوْضِ حِيـنَ تَفَتُّـحٍ
فَتَطْـرَبُ أَكْـوَاخٌ وَيَهْنَـأُ مَسْـمَـعُ
وَنَقْطِفُ زَهْرَ الْقُطْـنِ وَهْـوَ مُنَـوِّرٌ
فَتَنْعَـسُ أَهْـدَابٌ وَتَرْتَـاحُ أَضْلُـعُ
وَكُنَّـا صِغَـارًا لا نُفَـارِقُ بَعْضَنَـا
تُسَابِقُنِـي لِلْبَيْـتِ لَهْـوًا وَتُـسْـرِعُ
وَنَصْعَدُ صَفْصَافًـا وَنَقْتَـاتُ تُوتَـةً
عَلَى جِذْعِهَا الْوَانِي تُهَفْهِـفُ أَفْـرُعُ
وَتَضْحَكُ مِلْءَ الثَّغْرِ حِيـنَ أَشُدُّهَـا
وَأَحْمِلُهَـا عَطْفًـا وَلِلسَّقْـفِ أَرْفَـعُ
تَرُدُّ يَـدِي مَكْـرًا وَتُبْعِـدُ شَعْرَهَـا
وَتُلْوِي بِرَأْسِـي جَانِبًـا ثُـمَّ تَدْفَـعُ
وَتَمْضِي تَحُثُّ الْخَطْوَ نَحْوِي تَشَوُّقًـا
وَتَرْجِعُ مِنْ خَلْفِي إِلَى حَيْثُ أَرْجِـعُ
فَكَانَـتْ حَبِيبًـا لا يُفَـارِقُ مُهْجَتِـي
وَكُنْـتُ أَخَـا وُدٍّ يَصُـونُ وَيَمْنَـعُ
فَمَا بَالُهَا صَمَّتْ عَنِ النَّـاسِ أُذْنُهَـا
فَلا نَطَقَتْ حَرْفًـا وَلا هِـيَ تَسْمَـعُ
تَبَدَّلَ حُسْنُ الأَرْضِ حُزْنًا وَغَيَّـرَتْ
سمـاءٌ فضـاءً وَالْحَدَائِـقُ بَلْـقَـعُ
تَفَـرَّقَ شَمْـلُ الأَهْـلِ بَعْـدَ تَوَحُّـدٍ
وَكَانَـتْ تَضُـمُّ الأَبْعَدِيـنَ وَتَجْمَـعُ
تُقَـرِّبُ مَظْلُومًـا وَتُبْعِـدُ ظَالِـمًـا
وَتُطْعِـمُ مِسْكِينًـا تَصُـومُ وَيَشْبَـعُ
وَتَحْنُو عَلَـى طِفْـلٍ يَتِيـمٍ تَضُمُّـهُ
إِلَى صَدْرِهَا الْحَانِي تَرِقُّ وَتُرْضِـعُ
وَتَأْوِي الأَيَامَى حِيـنَ تُغْلِـقُ بَابَهَـا
رِجَالٌ عَلَـى ضَيْـمٍ تَعِيـشُ وَتَقْنَـعُ
فَيَا لَكِ مِـنْ أُخْـتٍ يَعِـزُّ وُجُودُهَـا
عَلَـى زَمَـنٍ فَيـهِ الذَّلِيـلُ مُمَنَّـعُ
يَفِـرُّ ضَعِيـفٌ ، وَالْجَبَـانُ مُؤَمَّـنٌ
وَكَـرَّ قَـوِيٌّ ، وَالشُّجَـاعُ مُـرَوَّعُ
يَصُونُ الذَّلِيـلُ الْمُسْتَرِيـحُ لِبَاطِـلٍ
وَمِنْ تَعَـبٍ حَـقُّ الْعَزِيـزِ مُضَيَّـعُ
فَأَنْتِ ـوَإِنْ حَـنَّ الْفُـؤَادُ ـوَدِيعَـةٌ
يَجُـودُ بِهَـا رَبٌّ يَضُـرُّ وَيَنْـفَـعُ
أَرَاحَكِ مِنْ هَـمِّ الْحَيَـاةِ وَجَوْرِهَـا
وَفُزْتِ بِرِضْوَانٍ وَوَجْهُـكِ أَنْصَـعُ
يَطُـوفُ عَلَيْـكِ الصَّابِـرُونَ بِجَنَّـةٍ
وَكَفُّكِ مَخْضُـوبُ الْبَنَـانِ مُرَصَّـعُ
فَطُوبَـى لِعَبْـدٍ فِـي مَنَـازِلِ رَبِّـهِ
يُمَازِجُ حُورًا فِـي الْجِنَـانِ وَيُمْتَـعُ
وَلَسْنَا ـوَإِنْ شِئْنَا الْحَيَـاةَ ـخَوَالِـدًا
وَكُلُّ امْـرِئٍ يَـوْمَ الْفَـرَاقِ يُـوَدَّعُ
فَلَيْسَ امْـرُؤٌ يَسْطِيـعُ رَدَّ قَضَائِـهِ
إِذَا جَاءَ مَنْظُورًا عَلَى الْبَابِ يَقْـرَعُ
يَدُقُّ عَلَيْـهِ الـرُّوحَ حِيـنَ يَرُدُّهَـا
إِلَيْهِ سَرِيعًـا فِـي يَدَيْـهِ ، فَتُنْـزَعُ
وَإِنْ طَالَ عُمْرُ الْمَرْءِ أَوْ قَلَّ عُمْـرُهُ
فَلا بُـدَّ أَنْ يَأْتِـي رَحِيـلٌ وَيُسْـرِعُ
تَجِيءُ مَنَايَانَـا عَلَـى حِيـنِ غِـرَّةٍ
وَتَضْرِبُ مِنَّا مَـنْ تَشَـاءُ وَتَصْـرَعُ
وَتَنْشِبُ فِـي الأَرْوَاحِ مِنَّـا أَظَافِـرًا
وَيَدْخُلُ نَابٌ فِي الْعُـرُوقِ وَإِصْبَـعُ
وَتَخْـرُجُ رُوحٌ فِـي إِبَـاءٍ عَزِيـزَةٌ
تَـذَلُّ لِـرَبِّ الْعَالَمِيـنَ وَتَخْـشَـعُ
وَتَلْتَفُّ سَاقٌ فَـوْقَ سَـاقٍ وَتَرْتَقِـي
إِلَى اللهِ نَفْـسٌ تَسْتَغِيـثُ وَتَضْـرَعُ
وَيُحْمَـلُ جُثْمَـانٌ وَيُلْقَـى بِحُفْـرَةٍ
يُـوَارَى عَلَيْنَـا بِالتُّـرَابِ وَنُقْـمَـعُ
وَيَحْثُو عَلَيْنَـا فِـي بُكَـاءٍ صَدِيقُنَـا
وَيَنْأَى بَعِيـدًا ثُـمَّ يَسْلُـو وَيَرْجِـعُ
يَضِيقُ عَلَيْنَـا الْقَبْـرُ حِيـنَ يَضُمُّنَـا
وَكُنْا نُغَنِّـي فِـي الرُّبُـوعِ وَنَرْتَـعُ
فَإِمَّـا إِلَـى رَوْحٍ وَرَيْحَـانِ جَنَّـةٍ
وَإِمَّـا إِلَـى نَـارٍ نُسَـاقُ وَنُسْفَـعُ
فَلَيْسَ مِنَ الأَهْوَالِ لِلْمَـرْءِ مَهْـرَبٌ
وَلَيْـسَ لَنَـا إِلا إِلَـى اللهِ مَـفْـزَعُ
فَلا تَحْزَنِي يَا أُمِّ إِنْ يَغْلِـبِ النَّـوَى
وَإِنْ غَـابَ نَجْـمٌ أَوْ تَبَاعَـدَ مَطْلَـعُ
سَتَطْلُعُ شَمْسٌ مِـنْ دَيَاجِيـرِ قَبْرِهَـا
وَتُشْـرِقُ بِالأَنْـوَارِ يَوْمًـا وَتَسْطَـعُ
ــــــــ
قصيدة من مجموعة
هكذا نبكي
للشاعر الدكتور / عزت سراج